الاثنين، 27 أبريل 2015

لحظة قاهرة

لحظة قاهرة
تأليف: سامي المحمادي سنة 1430..."سوف ألعب حتى أمل" قالها ياسين بسرور غامض فهو يعرف الملل أنه يأتي اللعب, فهل يعرف كلمات أخرى من قاموس الحياة, صبي في التاسعة من عمره يحب اللهو والبراءة تتوهج في عينيه المائلتين الى الأرض دوماً, باحثاً عن لهو في أرض هنا أو هناك. أخذ يمني نفسه بالأمل المحمود في تلك اللحظة, لهذا الأمل عنفوان الشباب الحلو, وحلاوة الابتسام تنبع من قلب يحب اللهو أو أكثر من اللهو. قادته نفسه الى أصدقاءه المتحمسين الى القاء التحية والاندماج الروحي حيث تتجاذب الأرواح بين الأصدقاء. قادته روحه الأبية الطاهرة الى اللعب في مزرعة بعيدة عن الأعين, هناك تمثل شيطان اللعب وقاد الأطفال الى اللعب بكل حرارة وبكل اقتناع بفلسفة اللعب الذي يمنحه الزمن في يوم من الأيام وفي يوم كان هناك أولاد يلعبون ويرقصون ويتمتعون, كانوا يغازلون الشمس لكي لا تغيب ولكي يستمر قضاء الايام هكذا بدون رواسب الزمن وبدون إحداث ثغرة في نسيج القلب. كانوا يلعبون وأمتلأت قلوبهم بخراطيم الهواء النقي الذي كانوا يتنفسون منه, وامتلأت الأعين بالرغبة النافرة من الملل القادمة من كوكب آخر غير كوكب الأرض المتخم بالمزاليج التي دائماً تشير الى الأسفل الهابط الى القاع.
برقت عينا ياسين حينما رأى الكرة وقال في لهفة مستفيضة انت غنيمتي من اليوم سألعب حتى أمل دعونا أيها الشباب نلعب ونلهو حتى نقول قط. محمد وفاروق وغياث أصدقاء ياسين كانوا يحملقون ويعشقون هذا الصياح, صاحوا نحن أشد منك فرحاً وابتهاجاً هات الكرة. تخطوا جميع حواجز الأيام ووصلوا الى أرض الملعب, كان الملعب مستطيل الشكل ارضه قريبة من القول بأنها سميكة بعض الشيء وأما أبواب المرمى فكانت عبارة عن أحجار تحدد المرمى والملعب محاط بأحجار تحدد خط التماس, لقد كان الحجر هدية لهم من أرض كانت حجرية يقع فيها بئر مهجور حفر لأجيال سابقة كانت حاضرة لا للعلب بل للعيش والسكنى, سبق أن لعبوا بالقرب من هذا البئر ولم يحدث أي حدث أو مشكلة لهم, كانوا يلعبون ويمرحون حتى مغيب الشمس.
ولعبوا, ابتدأ اللعب ياسين يتقدم بالكرة غياث يحاصره يقول لزميله في الفريق اطرحه أرضاً, لم يبالي ياسين, تقدم وتقدم حتى أقترب من المرمى للفريق الخصم, خرج سعدان من موقعه وتقدم نحو ياسين, لكن ياسين راوغه كالثعلبان، نجا منه بأعجوبة, هكذا يحدث في المباريات الدولية, ياسين محاط بثلاثة لاعبين, اصر على التقدم بالكرة مع ما في ذلك من خطورة, مارس ياسين دهائه الطفولي, أوهمهم بتمرير الكرة الى فريد, لكنه تقدم وفي لحظة بارعة سدد الكرة فارتفعت فوق الأكتف والرؤوس واستقرت في المرمى معلنة إحراز هدف بنكهة مارادونية أو كابتن ماجد, هكذا يلعبون في جذب ودفع بالكرة لا يملون.. وفي لحظة أرادها القدر, ضرب ياسين الكرة وتخطت خط التماس وانتقلت بقدرة قادر الى ذلك البئر المحفوف بالمخاطر, في تلك اللحظة لم يرد أي من اللاعبين سواءً من فريق ياسين أم الفريق الخصم الذهاب لالتقاط الكرة, كان العرف أن من قذف الكرة بعيداً يذهب بنفسه لأعادة الكرة, فما كان من ياسين إلا اتباع هذا العرف العادل.
ذهب ياسين وكان الوقت يستأذن الشمس, تقدم ياسين وهو يرقب الشمس, ظن أن الوقت لم ينتهي, اقترب من الكرة التقط الكرة- كان حافياً- وهم بالعودة, ضربته شوكة, انقلب على وجهه في البئر, صرخ صراخاً فظيعاً, سمع الأولاد صراخه, فتسارعوا نحو البئر, كان البئر مظلماً أسود حالك كسواد ليلة شتوية ظلماء, صرخ غياث بشدة في البئرولكن لم يجيبه ياسين, ازداد قلق الأولاد, لم يسبق أن جربوا مأزق كهذا,انتقل فاروق الى الجانب الآخر من البئر, صرخ ياسين هل تسمعني, لم يرد ياسين, غمر الوجوم وجوه الأولاد لقد كانوا في حيرة عظمى, فهذا صديقهم قد يتعرض للموت, قفز الموت في مخيلتهم كشبح رمادي قادم من الفضاء, جلس الأولاد ماذا سيفعلون إزاء هذا الموقف الرهيب, في هذه اللحظة ظهر غياث كسيد مطاع, أمر فؤاد بالتوجه نحو أهل ياسين لإبلاغهم بالأمر, وأمر بقية الأولاد بالهدوء وعدم الاقتراب من البئر, في هذه المواقف يظهر القادة وصناع الحياة.
حضر والد ياسين والدفاع المدني بكل تجهيزاته, أمر قائد الفرقة رجاله بالنزول نحو قاع البئر وأمر أحدهم بإحضار مكبر الصوت, لم بتقدم أحد نحو البئر, كان العساكر خائفين وكانوا يتدافعون أمر قائدهم بقولهم لما لا تنزل أنت, كان الخوف مسيطر عليهم إلى أن ظهر قائد آخر هو محمود, محمود هذا يحب المغامرات وقد كافؤه دوماً بالمكافآت المجزية على شجاعته, تقدم محمود وقال أين الحبال, ربط رجال الدفاع المدني الحبل في صخرة كانت بالقرب من البئر والناحية الأخرى من الحبال كانت في وسط جسم محمود, نزل محمود بهدوء أعصاب كعادته, أخذ ينزل وجندي آخر ينادي على ياسين, نزل في العمق وقد قارب الوقت على الغباش فلم تكن هناك أنوار كأنوار المدن والنور الوحيد هو مصابيح سيارات الدفاع المدني و مصابيح البطاريات, ركز الدفاع المدني الأنوار على البئر, لم يبدو محمود ولا ياسين, كان والد ياسين في قلق فاضح برغم احتفاظه بقليل من هدوء الأعصاب, وبرغم تأكيدات الدفاع المدني بأن الأمر سينتهي قبل منتصف الليل, انتصف الليل ولم ينبس أحد من البئر, ما زال أحد الجنود ينادي بمكبر الصوت, لم يسمع أي ارتجاج, علق أحدهم بأن البئر عميق جداً, مضت الساعات ولم يعلم بعد هل ياسين مات وماذا عن محمود, بدى القمر بدراً في ليل أسود كالح, وفجأة بدأ إهتزاز الحبال, أخذت الحبال تهتز وتهتز والجميع في ترقب ماذا سوف يحدث, صرخ الجندي بمكبر الصوت ياسين.. محمود, أخذت الحبال تهتز حيناً وتقف حيناً آخر, كان الموقف صعباً على والد ياسين, لم يستطع الانتظار, أخذ يشد الحبال وأخذ بقية الجنود يشدون معه الى أن ظهر قبعة محمود من وسط ظلام متراكم وشيئاً فشيئاً ظهر محمود بياسين, كان مقطعاً ممزقاً, في جسده الكثير من الزجاج المحطم, حمل ياسين الى المستشفى بعجلة كبيرة لكن انفاس ياسين كانت محدودة فقط لفظ انفاسه الأخيرة ومات...
هذه الحادثة ظلت في ذاكرتي ومنظر البئر ووجه ياسين الممزق, لم أعرف أن الحياة قد تقسو حيناً من الزمان إلا بعد هذه الحادثة.. لقد عرفت المصير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق